إن الخيرية التي جعلها الله في هذه الأمة عندما قال { كنتم خير أمة أخرجت للناس } منوطة بتكملة الآية { تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر } وهذه أحد مهام الأمة، التي أوجب الله عليها القيام بها لتحقيق هذه الخيرية، فلن تتحقق مالم يكن للأمة دور مشهود في الأمر بالمعروف وإقامته، والنهي عن المنكر وإزالته.
هناك خلال واضح عند الكثير من المسلمين -أصحاب العواطف الصادقة والجياشة- في تصور هذه الوظيفة الشريفة، فقد اختُزل مفهوم “المنكر” عند الكثير من المسلمين عامة، المهتمين بالشأن الإسلامي خاصة في أنواع محدودة من المنكرات مثل:
– المنكرات العبادية والعقائدية والتي تتعلق بمظاهر البدع التي تدخل سائر العبادات، والأخرى التي طرأت على عقيدة الأمة.
– المنكرات الأخلاقية كالشهادة الزور والخيانة والكذب..
– المنكرات الاجتماعية، والتي حصرت أيضا في العلاقات بين الجنسين.. إلخ
ولا شك أن ما سبق من المنكرات التي لا ينبغي إغفال التصدي لها، لكن في ذات الوقت لا ينبغي حصر مفهوم المنكر بها.
لقد غاب عن أذهان الكثير من المسلمين أن هناك منكرات لا تقل خطورة، وربما تكون أخطر من ذلك كله، وأثرها أعظم وأشمل وأعمق، وهي:المنكرات السياسية .
إن المنكرات السياسية ذات تأثير عميق في واقع الحياة، و لها تأثير مباشر في ظهور وتنامي بقية أنواع المنكرات.. العبادية و الأخلاقية و السلوكية..، بل حمايتها أحيانا، وشرعنتها أحيانا أخرى، فإذا انغمست السلطة في المنكر السياسي؛ فإن الواقع سيكون أرضا خصبة لنمو بقية أنواع المنكرات، بل ربما تكون هي الراعي الرسمي لها!!
إن المنكرات السياسية ذات تأثير عميق في واقع الحياة، و لها تأثير مباشر في ظهور وتنامي بقية أنواع المنكرات.. العبادية و الأخلاقية و السلوكية..، بل حمايتها أحيانا، وشرعنتها أحيانا أخرى، فإذا انغمست السلطة في المنكر السياسي؛ فإن الواقع سيكون أرضا خصبة لنمو بقية أنواع المنكرات، بل ربما تكون هي الراعي الرسمي لها!!
كلنا يعرف ما حصل في مسألة خلق القرآن، وكيف اقتنعت السلطة السياسية بهذه البدعة العقدية، فكانت هي المروّج والداعم والرعي الرسمي لها، وكانت الفتنة عامة لجميع المسلمين وعلى رأسهم العلماء، وهذا يدلنا على البدعة أو المنكر متى ما ارتبط بالسلطان، الذي يتكفل بها، فإن البلاء يتضاعف والفتنة تعم، ويعم شرها وضررها.
إن المنكرات السياسية – و للأسف – كثيرة في عالمنا العربي و الإسلامي، ولا يتم التصدي لها من زاوية أنها منكر يتعارض مع قواعد وأصول السياسة الشرعية في الإسلام، حيث تم إخراجها من دائرة “المنكرات” في تصور قطاع من المسلمين.
من تلك المنكرات احتكار السلطة، و حصرها في فئة محددة لا يشاركها أحد، و إنما هي التي تختار من يشاركها عبر إلقاء شيئ من فتاتها على شكل أعطيات وهبات تستوجب الشكر والحمد للمعطي، وهذا يقع تحت مسمى استبداد الحكم و مصادرة حق أصيل من حقوق الإنسان والأمة، وهو حق اختيار الحاكم و تداول السلطة، وهو حقٌ مكفولٌ شرعا وعقلا.
ومن المنكرات السياسية السكوت عن الظلم، والهيبة من الصدع بالحق ومواجهة الظالمين، تحت شتى الذرائع التي لا تعجز كثير من العقول الإسلامية عن إيجادها بمهارة فائقة تبرر السكوت والخضوع والخنوع، الذي يدخل في نهاية الأمر في قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك أنت ظالم، فقد تُوَدِّع منهم » رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد
من المنكرات السياسة أيضا إنتهاك القانون داخل الدولة، بصورة تقضي على تكافؤ الفرص، وتُسلب فيها الحقوق، ويُقدم من لا يستحق التقديم، ويُؤخر من لايستحق التأخير، فيُعبث بالنظام، وتُنتهك الحقوق، فتنتشر المحسوبيات، وتكون قوة المتنفذين فوق قوة القانون، لذلك كانت هذه القضية من أوائل القضاي التي عالجها أبو بكر الصديق في بيانه الرئاسي الأول والذي ألقاه فور توليه الخلافة حيث قال: {القوي فيكم ضعيف عندي، حتى آخذ الحق منه، الضعيف فيكم قويٌ عندي، حتى آخذ الحق له}
إن من الواجب على العلماء والدعاة أن يبصّروا الأمة بمجموعها -حكاما ومحكومين- بحقيقة المنكرات السياسية التي أفسدت دين الأمة ودنياها، حتى أصبح حالها يصدق عليه قول الشاعر:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيْمٌ *** ولا يُستأمرون وهم شهودُ
إن من الواجب مخاطبة الحكام بهذه المنكرات، ونهيهم عنها، عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتٌّامُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهُنَّ عَنِ المُنْكَرِ وَلَتٌّاخُذُنَّ عَلى أَيْدِي المُسِيءِ، وَلَتٌّاطُرَنَّهُ عَلى الحَقِّ أَطْرَاً، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ الله بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلى بَعْضٍ، وَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ} رواه أحمد والترمذي، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
كما أن من الواجب خطاب الأمة بهذه الانحرافات والمنكرات والمحدثات، حتى لا يُظن بأنها شرعية، وحتى لا يُفسر سكوت العلماء عنها بالرضى والقبول، وحتى تقوم الأمة بواجبها في مناصحة المخطئ، وتقويم المعوج {من رأى فيّ اعوجاجا فليقومني} ، {فإن أسأت فقوّموني}.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز أهل الطاعة والرضوان، ويذل فيه أهل الفساد والخذلان.. ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن حقيقة المنكر ..
والحمد لله على كل حال .
كلمة عالهامش: غالب السلطات لا يزعجها كثيرا أن يحارب المصلحون المنكرات الأخلاقية والعبادية والعقائدية والسلوكية، بل ربما تشارك في التصدي لها، لكنها تتخذ موقفا مغايرا عندما يتعلق الأمر بالمنكرات السياسية !!