بصرف النظر عن الخلاف والتنافس بين القوى السياسية والأحزاب في تونس، وهو أمر طبيعي وصحي، ومن مستلزمات الديمقراطية، حيث يتأكد ذلك أكثر في فترات التحول الديمقراطي، فإن سقوط سحب الثقة برئيس البرلمان راشد الغنوشي يمثل ضربة لمعسكر الثورة المضادة.
ظاهر المشهد في تونس أنه صراع أحزاب سياسية في البرلمان، وهو مشهد متكرر ومألوف ومقبول في كل الأنظمة الديمقراطية ما دامت في الإطار الوطني والدستوري، لكن ما وراء هذا المشهد هو محاولات حثيثة من قوى الثورة المضادة لتعقب أي مسار ديمقراطي في الدول العربية لوأده والقضاء عليه، ولذلك فإن حجم المتابعة والترقب عربياً لمسار التجربة في تونس يستحضر ذلك الاصطفاف الذي أحدثه الربيع العربي، والذي ما زالت ارتداداته إلى اليوم.
لا يمكن قراءة ماحدث في تونس مؤخراً على أنه حدث داخلي محض بعيداً عن سياقه في المشهد العربي منذ 2011، بل إن الأبعاد الإقليمية والعربية حاضرة في المشهد؛ فالجوار الليبي الذي تقلصت فيه امتدادات حفتر ومصر والأطراف الخليجية التي تقف وراءهم، ودخول تركيا على خط الأحداث، كل ذلك يجعل من تونس عنصراً مهماً في المعادلة، فوجود الغنوشي بخلفيته الإسلامية كطرف فاعل في السلطة بتونس يمثل خطورة لمشروع القوى المضادة للثورة في حال تراجع حفتر مع الحضور التركي، وصعود القوى الإسلامية، ولذلك بدأ التصعيد ضد النهضة يتزايد أكثر مع الهزائم التي تعرض لها حفتر.
كما أن الأزمة الصامتة الآخذة بالاتساع بين المملكة المغربية والأطراف الخليجية تسهم في رسم المشهد؛ فالمغرب يرفض الدخول في الاستقطاب الحاد الذي تحاول تلك الأطراف جره إليه، وتسببت تلك المحاولات بعدة أزمات؛ آخرها كانت بسبب السياح الإسرائيليين العالقين في المغرب بسبب كورونا، حيث أرادت الإمارات إجلاءهم دون تنسيق مع المغرب.
جميع ما سبق يجعل تلك الأطراف الخليجية تشعر بتهديد حقيقي لها في المغرب العربي، بعد أن بذلت جهوداً كبيرة في بناء شبكة نفوذ هناك لتعزيز حضورها، لكن في الفترة الأخيرة تعرضت تلك الجهود إلى ضربات موجعة، آخرها سقوط لائحة سحب الثقة بالغنوشي التي علقت عليه تلك الأطرف آمالها!
لن تكون هذه آخر فصول معركة الثورة المضادة مع المسار الديمقراطي، سواء كان الإخوان في مركبه أو خارجه، فمحو آثار الربيع العربي وكل ما نتج عنه من وعي تجاه الحقوق والحريات، أو مسار فعلي على أرض الواقع، هو هدف القوى المضادة للثورة، فحيثما كان مسار ديمقراطي انقلبوا عليه بالقوة كما فعلوا في مصر وليبيا، وإلا لجؤوا إلى إفساده وتخريبه من داخله كما هي المحاولات في تونس، فالأولوية بالنسبة لهم عدم نجاح أي تجربة للتحول الديمقراطي في أي منطقة عربية؛ خوفاً من انتقال عدوى النجاح إلى مناطق أخرى!