تَصادفت الذكرى العشرية لانطلاق الربيع العربي مع عملية انتقال -غير سلس- للسلطة في الولايات المتحدة الأمريكية، وِكلا الحدثين أعاد تفجير الأسئلة حول جدوى الديمقراطية وصلاحيتها، وخصوصاً في العالم العربي، فإذا كانت أمريكا، وهي مضرب المثل في التجربة الديمقراطية، قد أفضت تجربتها إلى وصول حاكم -ترامب- أشبه بحكام العالم الثالث، فكيف بالدول العربية التي يعشعش فيها الجهل والتخلف وسوء الإدارة؟!
كثيراً ما نسمع مثل تلك المرافعة بين العرب، مدعومة بتجربة الربيع العربي المتعثرة، والتي أفرزت أنظمة أكثر شراسة من أنظمة ما قبل الربيع، مما جعل الخطاب الداعم للديمقراطية يخسر في واحدة من أهم جولاته، حيث عمل الخطاب المضاد للثورة- بما يملك من مال وإعلام- على ربط كل الفشل الذي لحق بالربيع العربي، وحالة الفوضى التي أعقبته بفكرة الديمقراطية، كما تم استثمار وحشية داعش والنظام السوري في شيطنة أي حراك مطالب بالديمقراطية، باعتبار أن ذلك هو المآل الحتمي للمطالبة بالحرية أو الديمقراطية، ولأي حراك أو نشاط أو خطاب يسعى فقط لتحسين الظروف المعيشية، فعندما يعترض الناس على زيادة الأسعار أو فرض الضرائب، فسرعان ما يأتي الرد القاصف والاعتباطي: انظر ماذا حدث لسوريا! فيستحضر الذهن مشهد الدمار والخراب، مصحوباً بحالة الرعب والوحشية، فيرضى بواقعه التعيس، خوفاً من تلك الصورة القاتمة، وبالتبعية خوفاً من الديمقراطية والحرية التي رُبطت بذلك المشهد المرعب!
لذلك ما زالت المعركة حول الديمقراطية قائمة على صعيد التصورات والقناعات، فالشعوب تنجذب بفطرتها السوية لقيم مثل الحرية، والمساواة أمام القانون، والعدالة في توزيع الثروة، والنزاهة والشفافية ومحاربة الفساد، والقضاء على المحسوبية، وغيرها من قيم تأتي غالباً كحزمة مع الديمقراطية.
في مقابل ذلك هناك مقاومة ممنهجة لما سبق، لا تقتصر على الجانب المادي والعنيف، وإنما تعمل على تشويه تلك المطالب، وتشويش صورتها في أذهان الناس، وذلك بخلق ارتباط شرطي بين الحرية والفوضى، وبين الديمقراطية وعدم الاستقرار، وبترويج أفكار استشراقية ترى عدم صلاحية العرب- كأمة- للديمقراطية، واستحالة تنظيم أوضاعهم وفق مبادئ الحكم الرشيد، فلا يصلح لهم إلا السوط والتفرد بالسلطة والحكم العسكري، مستندين إلى تردي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والتعليمية، التي هي في الحقيقة نتاج تلك الأنظمة، فالمواطن العربي -في نظرهم- لا يمتلك الوعي الكافي لممارسة حقوقه، وهو محتاج دائماً إلى أنظمة متسلطة تمارس الوصاية عليه، فهي أعرف بمصلحته وأكثر وعياً منه.
رغم ذلك الخطاب المشيطن للديمقراطية والمشكك في جدواها، من الخطأ الترويج للديمقراطية باعتبارها الجنة الموعودة، والحل السحري لكل المشاكل المتعاقبة والمتراكمة، بل يجب أن توضع في سياقها الصحيح وحجمها الطبيعي كأنجح وسيلة مجربة للتغلب على إشكالية تداول السلطة، وأفضل طريقة متاحة -حتى الآن- لتقليل فرص احتكار السلطة، وما ينتج عنه من علل اقتصادية واجتماعية وثقافية، كما أنها لا تعطي ضمانة دائمة لصوابية القرارات المتخذة وفق آلياتها، لكنها من أكثر الأنظمة التي تمنح فرصة أكبر لتصحيح القرارات الخاطئة التي تتخذها الأغلبية.
فالديمقراطية لم تمنع من وصول ترامب إلى سدة الرئاسة، لكنها في ذات الوقت منعت استمراره، كما حّدت من تَغوله وتماديه، وذلك عبر المؤسسات الديمقراطية الأخرى، وقلصت من آثار قراراته العبثية.
لا شك أن معركة العرب مع الديمقراطية وأعدائها ليست سهلة أو قصيرة، فهم لا يدخرون وسيلة لإسقاطها وتشويهها، بل يستغلون أي خطأ أو هفوة تصاحب -بشكل طبيعي- التجارب الديمقراطية من أجل الترويج لخطورتها وعدم صلاحيتها للعرب، وما زال الذهن العربي مشوشاً تجاهها، لكن التاريخ لن يعود إلى الوراء، وما كان يضلل العرب أو يستغفلهم سابقاً لن يستمر بنفس الفاعلية في وقتنا الحالي.