تونس.. عود على بدء!

بعد عشر سنوات من انطلاق الربيع العربي الذي كانت تونس شرارته الأولى، تعود تونس مرة أخرى إلى واجهة الأحداث في العالم العربي، لتخطف الأنظار، وتستعيد اهتمام المراقبين، والمتأملين خيراً في الربيع العربي، والناقمين عليه، على حد سواء، بعد أن اعتقدوا لفترة ما، أنها تجاوزت أصعب مراحلها، وهي في طريقها للاستقرار، لكن الأحداث الأخيرة أثبتت أنه ما زالت أمام التجربة عديد من العقبات التي قد تودي بها، وتعيدها إلى المربع الأول،

وأمام هذا المشهد هناك عدة وقفات مستحقة: الوقفة الأولى: تأتي الأزمة السياسية ومعسكر الثورة المضادة ليس في أحسن حالاته، بعد إخفاقاته في أكثر من جبهة، فضلاً عن التفكك الداخلي نتيجة تباين الرؤى والمصالح في عدة ملفات، كما أنَّ وعي عموم النخبة السياسية في تونس بأن ما قام به قيس سعيد يُعد شكلاً من أشكال الانقلاب -مهما تكلف في تأويل الفصل (80) أو ادعى عدم مخالفة الدستور- وأن التسليم بهذه الإجراءات والتأويلات قد يغريه بمزيد من الخطوات التي تبتعد بالتجربة عن المسار الديمقراطي، وتقرّبها أكثر من العودة للعهد السابق، إضافة إلى حجم الكارثة الاقتصادية والصحية، التي تفوق قدرات الرئيس في مواجهتها، كل ذلك يخفف من جرعة التشاؤم أو التخوّف من انزلاق التجربة إلى وحل الحكم القمعي أو الشمولي، لكن ذلك لا يعني أن التجربة تجاوزت مرحلة الخطر أو الانتكاس.

الوقفة الثانية: من الضروري إدراك أن النظام الديمقراطي يعالج إشكاليات تغوُّل السلطة، فيحميها من التفرد والطغيان، ويحفظ كرامة المواطنين، وفي الوقت ذاته لا يضمن بالضرورة الانتعاش الاقتصادي والمعيشي، لكن ذلك لا يعني إخفاق النخبة التونسية في إيجاد حلول لمشكلات البلد، بل إخفاقهم في إيقاف تدهور الوضع العام، وعلى رأسه الوضع الصحي والاقتصادي، سيضمن أيضاً استمرار تمسُّك الناس بالمسار الديمقراطي، أو يمنع تدخُّل الأطراف الإقليمية، خصوصاً تلك التي لا تريد استقرار أي نموذج ديمقراطي في المنطقة، وهنا تقع المسؤولية الكبرى على عاتق النخبة السياسية في إدراك خطورة المرحلة التي تعيشها تونس والمنطقة، وإدراك المسؤولية الملقاة على عاتقهم أمام الجمهور العربي في إنجاح وحماية هذه التجربة التي ألهمت المنطقة بأسرها في 2011م،

فحاجة تونس للنهوض اقتصادياً والتعافي طبياً لا تقل عن حاجتها لنظام ديمقراطي يمنع طغيان الأفراد أو الجماعات، ويضمن التداول السلمي للسلطة، ويضرب المثل للمحيط العربي. الوقفة الثالثة: منذ سقوط نظام زين العابدين كانت حركة النهضة حاضرة بقوة في المشهد، وظل هذا الحضور مستمراً حتى في ظل انحسار شعبيتها، وتراجع تمثيلها النيابي، وانعدام تمثيلها الحكومي، لكن جزءاً رئيسياً من هذا الحضور ساهم فيه خصوم “النهضة”، بل خصوم التجربة، بشكل متعمد، ليسهل وضع الصراع في سياق الحرب على جماعة الإخوان وشيطنتهم، ووأد المسار الديمقراطي من خلال تضخيم وجود حركة النهضة التي لا تملك سوى ربع البرلمان، وليس لها تمثيل حكومي. هذا لا يعني تبرئة مطلقة لـ”النهضة”، التي ما زال رئيسها الغنوشي متشبثاً بزعامتها، رغم تزايد الأصوات الداخلية الناقمة على إدارته، وفي الوقت ذاته من الخطأ تقزيم المعركة عبر اختزالها في حركة النهضة، بل هي معركة على الديمقراطية بين مسارين، يسعى أحدهما للانقضاض على منجزات الشعب التونسي الذي أطاح بالنظام السابق، ويستقوي بأطراف خارجية تشاركه هذا المسار.

ختاماً.. الحِمل في تونس ثقيل، وليس في وسع طرف واحدٍ تحمُّله منفرداً، لذلك من الواجب العودة سريعاً إلى المسار الدستوري لقيام جميع الأطراف بتحمُّل مسؤولياتهم، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

Scroll to Top