سبقت الإشارة إلى أن التواضع الحقيقي هو أن لا يرى الإنسانُ لنفسه شيئا يستحق عليه التعظيم والتكريم، ويكون ذلك نابع من إيمان داخلي عميق، وليست مجرد سلوكيات جوفاء أو كلمات تقذفها الألسن.
يترتب على ذلك أن لا ينخدع الإنسان بمدح المادحين لما يظنون فيه من خير وصلاح يظهر عليه، فيركن إلى هذا المدح ويستأنس به ويراه مستحقا، يقول ابن عطاء الله: “الناس يمدحونك لما يظنونه فيك، فكن أنت ذاما لنفسك؛ لما تعلمه منها”، لأن كل عاقل يعلم علم اليقين أن نفسه قد جُبلت على النقص وأنها متلبسة بالعجز والتقصير، وأنه لا حول ولا قوة له إلا بمولاه، لذلك لا يرى نفسَه أهلا لما تتلقاه من مدح وثناء، وأن عليه أن يستحيي من الله تعالى المطّلعُ على سره ونجواه، ويعلم من خفاياه ما لا يعلمه المادحون، فهو يستحيي لأنه أعلم بنفسه وحاله من بقية الخلق فـ “المؤمن إذا مُدح استحيا من الله أن يُثنَى عليه بوصف لا يشهده من نفسه” ولسانه حاله يردد دائم:
آه لو تدرون عني من أكون *** لظننتم فيّ آلاف الظنون
أكتسي بيض ثياب خلفها *** سود أوزاري التي لا تعرفون
آه لولا ستر ربي لَبَدَتْ *** سوءةٌ تحقرُها كل العيون
أنا بالذنب أُقاسي حرقة *** تلفح النفسَ بأنّات الشجون
يُحسِن الناس بي الظن وما *** عرفوا والله عني من أكون
إن العاقل يرى أن ذنوبه وغفلاتِه وخلجات نفسه الأمارة بالسوء يقينٌ ماثلٌ أمام عينيه، لا مفر من إثباته والإقرار به، أما مدح الناس له فهو مبنيٌّ على ظنٍّ منهم، لما رأوا من ظاهر أمره، دون اطلاعهم على بواطن حاله، فليس من العقل أن يُعرِضَ عن اليقين ويتمسكَ بالظن، فالظن لا يغني من الحق شيئا و“أجهل الناس من ترك يقين ما عنده؛ لظن ما عند الناس” .
ثم يطرح ابن عطاء الله كيفية تعامل الإنسان مع ما يتعرض له من المدح، في ضوء ما ذُكر من أن الإنسان على نفسه بصيرة وبعيوبه متحقق، والمسلك الصحيح -والحال كذلك- في قول ابن عطاء الله: “إذا أطلق الثناء عليك، ولست بأهل له، فأثن عليه بما هو أهله “، فإذا سمع الإنسان من الناس مدحا غير مستحق له -وهو عالم بنقصه وقصوره- فعليه أن يرجع لمولاه بالثناء عليه، ونسبة الفضل إليه، لأنه أظهر عليه من الفضل والخير ما ليس بأهل له، وكذلك لأنه ستر عن الناس قبائحه التي لو علموها لما أطلقوا ألنستهم بالثناء عليه.
فالفضل أولا وأخيرا لمن ستر عيوبك عن أعين الناس، فصاروا لا يرون فيك إلا خيرا، فلولا ستر الله لما أُطلق عليك مدح ولا ثناء، يقول ابن عطاء الله: “من أكرمك فإنما أكرم فيك جميل ستره، فالحمد لمن سترك، ليس الحمد لمن أكرمك وشكرك” لأن الذي شكرك لو علم حقيقتك لنفر منك، وما أطلق عليك مدحا ولا ثناء، فحقيقة المدح الذي تلقاه إنما هو مدحٌ لستر الله عليك، فعليك الاعتراف والإذعان له، ولله در القائل: “ما هناك إلا فضله، ولا تعيش إلا في ستره، ولو كشف الغطاء لكشف عن أمر عظيم “
فالحمد لله على جميل ستره..