من الضروري أن ينتقل الجدل حول التطبيع مع الكيان الصهيوني إلى مساحة نقاشية أخرى، فالمساحة التي ما زال يراوح فيها قد تحولت إلى سجالات عقيمة يتبارى فيها فريقان ويتبادلان الاتهام بالعلاقة مع إسرائيل، فعند أي حديث عن التطبيع من قبل المناهضين له ينفجر في وجههم سؤال: وماذا عن تركيا وقطر؟! ليتحول النقاش من إدانة للتطبيع إلى تعيير بالأسبقية إليه، ولا يأتي هذا السؤال غالباً في سياق استنكار التطبيع، وإنما يطرحه الطرف المطبع (بالخفاء أو العلن) لكي يقول “كلنا في الهوى سوا”، و”مفيش حد أحسن من حد”!.
المساحة التي يجب أن ينتقل إليها الحوار ينبغي أن يطرح فيها السؤال التالي: ما هي رؤية إسرائيل للمنطقة؟ وما الأطراف العربية التي تشترك معها في رؤيتها؟ القضية المركزية التي سيطرت على الفضاء العربي في السنوات العشر الماضية هي ما يسمى بالربيع العربي وتداعياته وارتداداته، فكان هو الحدث الأهم الذي يُفترض أن يُدخل المنطقة في مرحلة التحول الديمقراطي التي يكون فيها للشعوب العربية كلمة في تقرير مصيرهم! الموقف من هذه القضية هو الذي قسّم المنطقة، وأعاد تشكيل المحاور فيها إلى محور داعم للتحول، ومحور معادٍ، والذي يُعرف بمحور الثورة المضادة، والذي لم يكتفِ بمحاولات القضاء على التحول الديمقراطي، بل فرض نموذجاً شرساً في الحكم قائماً على عسكرة النظام، والبطش بالمعارضين، وإسكات أي دعوة للإصلاح الداخلي، وهذا هو النموذج المفضل لدى الكيان الصهيوني، الذي يدرك تماماً أن نجاح التحول الديمقراطي العربي سيجعل “إسرائيل” في مواجهة مباشرة مع الشارع العربي، وأن هذا الشارع لا يمكن أن يفرز قوى سياسية قادرة على الوصول للسلطة وفق الاختيار الشعبي وفي ذات الوقت تكون على وفاق مع “إسرائيل”، ومن هذا المنطلق كان عداء “إسرائيل” للربيع العربي، فهي تراه “شتاء أصوليّاً مليئاً بالمفاجآت والخبايا ينبغي الاستعداد للتصدّي له لحماية إسرائيل منه”!.
من هنا كان العداء للتحول الديمقراطي في المنطقة وما نتج عنه من وصول للتيارات الإسلامية، والذي يعني بالتبعية العداء للإسلاميين الذين كشف الربيع العربي وما لحقه من تجارب انتخابية عن شعبية تلك التيارات وقدرتها على الوصول للسلطة – بصرف النظر عن أدائها – حيث يعتبر العداء لإسرائيل أحد الركائز الأيديولوجية لتلك التيارات، وللتيارات السياسية عامة ممن لديها امتداد وحضور في ساحات العمل السياسي والشعبي، وهذا ما جعل محور الثورة المضادة يعلن عداءه الصارخ للتيارات الإسلامية؛ لكونها أكثر القوى استعداداً لتكون بديلاً عن الأنظمة التي سقطت، مما خلق رؤية مشتركة لقوى الثورة المضادة مع “إسرائيل” في معاداة التحول الديمقراطي أصالة، ومعاداة التيارات الإسلامية السياسية بالتبعية، فأي تجربة ديمقراطية حقيقية ستكون مضرة للطرفين، كما أن معسكر الثورة المضادة أصبح في أمسّ الحاجة للغطاء الإسرائيلي أمام القوى العظمى والمجتمع الدولي المنحاز لإسرائيل؛ من أجل غض الطرف عن استبداده الداخلي وممارسة القمع لقوى الإصلاح والتغيير، فـ “إسرائيل” بما تملكه من نفوذ ومجاميع ضغط في الولايات المتحدة تحديداً قادرة على توفير ذلك الغطاء، وهذا ما يجعل العلاقة تنتقل من مجرد التطبيع إلى تحالف استراتيجي يجعل بقاء ونفوذ كل طرف مرتبطاً بما يقدمه الطرف الآخر.
لقد خسرت “إسرائيل” – بسبب الربيع العربي – حليفاً مهماً مثل نظام حسني مبارك، الذي “كان يمثل حجر الزاوية الأهم في النظام الإقليمي لإسرائيل، والذي كان يتبع سياسيات تتلاءم تماماً مع المصالح الإسرائيلية”، بحسب ما يرى مدير برامج الشؤون العسكرية والاستراتيجية في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي العقيد غابي سيبوني، والذي يرى أيضاً “أن الحرب التي شنها نظام مبارك على الحركات الإسلامية في مصر، وحصاره حركة حماس في قطاع غزة، جزء من استراتيجية خدمت مصالح “إسرائيل” العليا..
وأن كُلاً من الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية تدركان أن نظام مبارك كان ديكتاتورياً طاغياً، لكن في الوقت نفسه كانتا مرتاحتين لقيامه بوظيفة طغيانه لخدمة المصالح الأمريكية والإسرائيلية”، وهذا ما يفسر الجهود التي بذلتها “إسرائيل” وبعض الأطراف الخليجية لوأد المسار الديمقراطي في مصر بعد 25 يناير واستعادة النظام السابق، وهو ما حصل في الثالث من يوليو 2013م، باعتراف الجنرال في الجيش الإسرائيلي البروفيسور آرييه إلداد، في مقال له في صحيفة معاريف الإسرائيلية حيث قال: “إن إسرائيل سارعت في تلك المرحلة إلى تفعيل أدواتها الدبلوماسية، وربما وسائل أكبر من ذلك، من أجل إيصال عبد الفتاح السيسي إلى الحكم في مصر، وإقناع الإدارة الأمريكية آنذاك برئاسة الرئيس باراك أوباما بعدم معارضة هذه الخطوة”.
وهذا ما يعزز الاعتقاد بأن ما نشهده اليوم ليس مجرد تطبيع في العلاقات، بل هو تحالف استراتيجي للقيام بأدوار وظيفية، وهذا التحالف قد لا يأخذ شكل التطبيع العلني والرسمي؛ فالأطراف الخليجية المهرولة نحو “إسرائيل” سراً وعلناً أصبحت المتعهد أمامها وأمام الولايات المتحدة للقيام بالأدوار التي كان يقوم بها نظام مبارك، وتقديم ذات الخدمات، بل وأكثر مما كان يقدم وأشرس.
ختاماً.. الكيان الصهيوني ومعسكر الثورة المضادة ينطلقان من رؤية مشتركة للمنطقة وموقف موحد من التحول الديمقراطي والسعي لوأده، ومن والقوى الفاعلة في المجتمعات العربية، ومحاولة استئصالها، فمن يقبل الانقلاب على الديمقراطية واغتصاب السلطة ومصادرة إرادة الأمة لن يواجه أي مشكلة أخلاقية في التطبيع، بل والتحالف مع مغتصبي الأرض ومنتهكي الحقوق، وهذا ما يجمع المعسكر المضاد للثورة بالكيان الصهيوني ويجعلهما في خندق واحد!