لا يمكن بأي حال التقليل من أهمية المصالحة الخليجية، التي تمت بعد أشرس أزمة شهدتها العلاقات الخليجية، فبالرغم من عدم نشر تفاصيل اتفاق العلا حتى هذه اللحظة، فإن مشهد العناق والترحيب المتبادل يعطي رسالة إيجابية، كما أن حجم الارتياح والترحيب الشعبي يعطي مؤشراً لحالة عدم الرضا الشعبي عن هذه الأزمة، وعن مبررات اندلاعها، التي لم تكن مقنعة بشكل كاف للقطاع العريض من مواطني دول مجلس التعاون، وهذا ما انعكس على حالة الابتهاج والاحتفاء بالمصالحة، والاستبشار بأن تكون النهاية الأبدية لحالة الشقاق بين الإخوة، والتي أقحمت فيها شعوب المنطقة بشكل غير مسبوق.
الآن وبعد أن وضعت الأزمة أوزارها، وبالتبعية توقفت حالة الاستنزاف لطاقات دول وشعوب الخليج المعنوية قبل المادية، لا بد من التفكير في الدروس والعبر، فمن الواضح أن قادم الأيام لن يقل في صعوباته وتحدياته عن أيام الأزمة التي ودعناها إلى غير رجعة بإذن الله.
من الضروري التأسيس لقواعد تضمن عدم تكرار الأزمة، وهذا يستلزم الحديث عن شكل العلاقة المفترضة بين دول مجلس التعاون، فمن الضروري أن تكون علاقة تحكمها القواعد والقوانين والأعراف الدولية، التي تضمن حقوق جميع الدول بممارسة سيادتها على جميع أراضيها وقراراتها، ودون إغفال الطبيعة الخاصة للعلاقات الخليجية التي تحمل قدراً من المجاملات الاجتماعية، والاحترام النابع من العادات والتقاليد، والتي يكون فيها للعلاقات الشخصية والتوجهات الفردية دور كبير، ولذلك من المهم العمل على ألا تؤثر تلك الطبيعة على مؤسسية القرارات والتوجهات.
يستلزم ما سبق ضرورة تطوير وتفعيل آليات ولوائح ولجان مجلس التعاون، الذي بدا عاجزاً كمؤسسة عن التعامل مع الخصومات البينية داخل كيان المجلس، ففي أثناء الأزمة عُطلت جميع لوائحه ونظمه التي من المفترض أن تتعامل مع الأزمة المتفجرة، والتي لم تُحل أيضاً داخل أروقته ولجانه، وإنما بمساع منفردة من دولة الكويت، وهذا الأمر يجعل السؤال مفتوحاً عن دور المجلس وحضوره في تحديد شكل العلاقة بين دوله، وحل المشكلات البينية، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الأزمة.
من المحطات المهمة التي يجب التوقف عندها والحديث حولها بمكاشفة ومصارحة، حجم المساحة التي يمكن لكل دولة خليجية أن تتحرك داخلها في الملفات الإقليمية، فمن الواضح أنه ليست هناك سياسة خارجية موحدة لدول الخليج، وهذا ما يجعل اختلاف الأجندات مادة قابلة للاشتعال في أي وقت، ولعل هذه القضية كانت المحرك الرئيسي للأزمة، فالموقف من الربيع العربي ودعم أو مناهضة الديمقراطية، والموقف من حرب اليمن، والصراع في ليبيا، والموقف من إيران، والعلاقة مع تركيا، وغيرها من الملفات الإقليمية ما زالت مفتوحة، وما زالت الرؤى حولها متباينة، وأحياناً متعاكسة بين دول الخليج، فمن الواجب وضع آلية للتعامل معها، ولا يعني ذلك بالضرورة أن تتوحد الرؤى والأجندات والمواقف، لكن من الضروري وضع قواعد عامة للتعامل مع الاختلاف في هذه الملفات، بحيث يُعترف لكل طرف بحقه السيادي في تحديد سياساته الخارجية، ومواقفه الإقليمية، دون التأثير على علاقته مع الأطراف الخليجية الأخرى، وأن تحصر نقاط الاختلاف في مجالاتها الضيقة، ولا يُسمح لها بالتمدد على بقية جوانب العلاقة التي قد تحتمل بناء توافقات وشراكات في مساحات أخرى.
أهم ما يمكن استفادته من تجربة الأزمة أن شعوب المنطقة إذا لم يكن لها دور فاعل في صناعة سياسات الدول، عبر المشاركة الشعبية والمجالس المنتخبة، فإنها ستتحول إلى وقود يستخدم في إشعال الأزمة، وأداة لتأجيج الصراع، ويتأكد ذلك الدور كلما كان النظام أكثر تضييقاً وشراسة، وأقل تقبلاً للتعددية وحرية الرأي، ولذلك من الضروري أن تدخل الشعوب في معادلة العلاقة بين دولنا، فهي الأقدر على ضمان بقاء العلاقات بعيدة عن الانفجار.